من كتاب السلم
للقديس يوحنا السلمي
السلمة الرابعة
الطاعة المغبوطة
في الطاعة المغبوطة الدائمة الذكر
في نهاية المقال عظة لأبونا المحبوب
داود لمعي
شرح للسلمة الرابعةعن "الطاعة المغبوطة"
- لقد وصلنا الآن في سياق بحثنا إلى الكلام عن المصارعين صراع الطاقة حبا بالمسيح، إذ إنه كما تعقب الثمرة الزهرة كذلك تعقب الطاعة التغرب بالجسد والمشيئة، لأن الطاعة المقدسة إنما تصعد إلى السماء بواسطة هذين التغربين بالجسد والمشيئة اللذين هما بمثابة جناحيها الذهبيين، ولعلهما المقصودان بما قاله داود بالروح مترنما: "من يعطيني جناحين كالحمامة فأطير" بالعمل، "وأستريح" بالتأمل والاتضاع".
- فلا نهملن إذا، إن شئتم، وصف قتال هؤلاء المحاربين الشجعان، مبينين باسهاب كيف يقتنون الإيمان بالله ترسا، إذا جاز القول، يردون به كل ارتياب أو تردد، وكيف يشرعون سيف الروح كل حين يقطعون به كل مشيئة ذاتية تقترب اليهم، وكيف يتدرعون بالدرع الحديدي درع الصبر والوداعة فيحطمون به كل طعنة وتعيير أو تكبر، وكيف يحتمون بخوذة خلاص هي صلاة رئيسهم، وكيف لا يضمون رجلا إلى اخرى بل يمدون الواحدة إلى العمل والخدمة ويثبتون الثانية في الصلاة.
- الطاعة جحود تام للنفس يتجلى في أعمال الجسد، أو لعلها بالعكس إماتة الجسد، فيما الفكر حي، الطاعة إقدام بدون بحث، موت طوعي، سيرة بلا تعقيد، عدم الاكتراث للأخطار، حماية تلقائية من لدن الله، عدم الخوف من الموت، ابحار امين، سفر اثناء النوم، الطاعة قبر للمشيئة وقيامة للاتضاع، فالميت لا يتناقض أو يباحث لا في الصالحات ولا في ما يحسب أنه من غير الصالحات، لأن الذي اسلم إليه الراهب روحه حبا بالله سوف يجيب عنه بشأنها كلها، الطاعة هي التخلي عن التمييز في وفرة من التمييز.
- في بداية اماتة الجسد والمشيئة مشقة، وفي منتصفها بعض المشقة، أما في نهايتها فزوال الشعور بأية مشقة، بل يشقى ذلك المطيع المغبوط، الحي والميت في آن واحد، ويتألم اذا لاحظ انه يصنع ارادته، وذلك خوفا من عبء المشيئة الذاتية وتبعتها.
- انتم الذي عزمتم ان تخوضوا معركة الشهادة، انتم الذين آثرتم ان تحملوا نير المسيح، انتم الذين بادرتم الى إلقاء حملكم على عتق غيرهم، انتم الذين اسرعتم باختياركم الى كتابة صك عبوديتكم راغبين ان يكتب لكم العتق والحرية بالمقابل، انتم الذين تعبرون هذا البحر الكبير مرفوعين على أيدي غيركم، اعلموا انكم قد عزمتم ان تسلكوا طريقا قصيرة بقدر ما هي وعرة، طريقا فيها ضلالة واحدة: هي اتباع الانسان هواه، لأن من جحد اتباع هواه جحودا كاملا حتي في ما يبدو له صالحا وروحيا ومرضيا لله قد وصل قبل انطلاقه للسفر، وذلك أن الطاعة هي عدم وثوق المرء بنفسه حتى آخر عمره في تقدير ما هو صالح له.
- متى أزمعنا بدافع الاتضاع وطلبا للخلاص ان نخضع ذواتنا لشخص آخر ونأتمنه في الرب،فلنعمد اولا الى الفحص والتدقيق بل الى اختبار مرشدنا اذا جاز القول، لا سيما اذا كنا على شيء من الخبث أو التكبر، وذلك لئلا نصادف نوتيا بدلا من ربان، ومريضا بدلا من طبيب، وانسانا مستعبدا للأهواء بدلا من انسان متحرر منها، ولجة بدلا من ميناء، فنلاقي غرقا وشيكا لنفوسنا، اما بعد دخولنا ساحة التقوى والطاعة فلا نعودن ندين مرشدنا في اي شيء بالكلية ولو رأينا فيه زلات ذميمة، ما دام انسانا، والا فلا ينفعنا خضوعنا شيئا.
- لابد للطالبين ان يؤمنوا بأوليائهم ايمانا راسخا لا ريب فيه أن يحفظوا في قلوبهم حفظا لا يمحى ما أحكمه هؤلاء من الفضائل وان يذكروه على الدوام، حتى اذا زرعت الشياطين فينا عدم الثقة بهم نسكتها بذكر تلك الفضائل الثابتة فينا، لأنه بمقدار ما تنمو الثقة في القلب ينشط الجسد في الخدمة، اما اذا عثر احد في الشك فقد سقط، "لأن كل ما ليس من الايمان فهو خطيئة"، فاهرب من الفكر الموحي اليك بالفحص عن رئيسك او الحكم عليه هربك من فكر الزنى، ولا تفسح لهذه الحية اي مجال البتة للدخول اليك، بل قل لذلك التنين: ايها المحتال انا ليس لي سلطان ان احكم على رئيسي بل هو له سلطان ان يحكم علي، لست انا قاضيا عليه بل هو قاض علي.
- لقد حدد الآباء ان تلاوة المزامير سلاح والصلاة سور والدمعة النقية حميم، اما الطاعة المغبوطة فقد حكموا بأنها شهادة لن يبصر الرب بدونها احد من المستعبدين للأهواء.
- من يخضع ذاته لغيره يحكم هو على نفسه فينجو من الدينونة، لأنه اذا كانت طاعته كاملة لأجل الرب، وان ظن انها غير كاملة، فهو "يستهلك" دينونته، أما اذا صنع مشيئته في شيء ما، فإنه يحمل وزر نفسه، ولو ظن نفسه مطيعا، فإذا عمد الرئيس الى توبيخه دون انقطاع فقد ينتفع، اما ان سكت عنه فليس لي ما اقول في امره، ولعمري ان الذين يخضعون لغيرهم بكل بساطة في الرب يعبرون الميدان بسلام ولا يحركون على انفسهم مكر الشياطين بميلهم الى التدقيق.
- وكان اذا أذنب أحدهم يتضرع اليه الاخوة رفاقه ان يدعهم يتعذرون عن الذنب لدى الراعي، لاقتبال التوبيخ عوضا عنه، فاذ درى هذا العظيم بذلك كان يخفف العقوبة لعلمه بأن من يحتملها غير مذنب، ولم يكن بالطبع يفحص عمن ارتكب الذنب بالفعل.
- هذا وقد تذكرت فضيلة مفيدة اخرى من فضائل هؤلاء المغبوطين النابعة كمن فردوس، سأوردها قبل ان اعود الى اشواك اقوالي وقحتها العادم النضارة والنفع، فقد لاحظ الراعي بعض الاخوة يتحادثون مرارا وقت الصلاة الجماعية فأمرهم بالوقوف على باب الكنيسة اسبوعا كاملا والسجود لكل من الداخلين والخارجين رغم انهم كانوا من الاكليريكيين بل من الكهنة.
- مغبوط هو من يعبر ويزدري به كل يوم فيضبط نفسه من اجل الرب، فإنه سينضم الى مصف الشهداء ويناجي الملائكة، مغبوط الراهب الذي يحتسب نفسه مستوجبا كل حين لكل مهانة وتحقير، مغبوط هو من يميت إرادته حتى النهاية ويسلم امره لمرشده في الرب، فإنه سيقف عن ميامن المصلوب، إذا أبى أحد أن يقبل توبيخا، محقا كان أو غير محق، فقد رفض خلاص نفسه، وإذا قبل التوبيخ يتعب، أو حتى بغير تعب، حظى سريعا بغفران خطاياه.
- أظهر لله بالروح إيمانك بأبيك وحبك الصادق له وهو عز وجل سيوحي إليه بطرق يعلم بها أن يعطف عليك حسب ميلك انت إليه.
- من يشهر لمرشده كل أفعى من أفاعي افكاره يظهر أن له ايمانا جليا به، أما من يخفيها فهو لا يزال نائها في قفار لا طريق فيها ولا دليل.
- من لا يكون مطيعا في كلامه فمن البين أنه لن يكون مطيعا في عمله، لأن غير الأمين في القليل غير أمين في الكثير وعديم الانصياع، إنه يتعب عبثا ولن يجني من الطاعة المقدسة سوى دينونة لنفسه.
- إذا عزم المرء على الاعتراف بخطاياه على الدوام فإن هذا العزم يكون له بمثابة لجام يردعه عن ارتكاب الخطية، لأن ما لا نعترف به نفعله دون خوف كما في الظلام.
- متى غاب رئيسنا فتصورنا وجهه أمامنا وحسبنا أنه واقف معنا، وتراجعنا عن كل لقاء أو كلام أو طعام أو نوم أو غيره مما يكرهه فينا، فلنعلم أن طاعتنا هي طاعة حقيقية لا غش فيها، إن أولاد الحرام يفرحون بغياب معلمهم، أما أولاد الحلال فيدعونه خسارة.
- سألت مرة أحد الرهبان الأكثر خبرة كيف تأتي بنا الطاعة إلى التواضع فقال: إن المطيع الفطن، وإن أقام الموتى وحاز موهبة الدموع والعتق من القتال، يعتقد كل الاعتقاد أن صلاة أبيه هي التي فعلت ذلك، فيبقى بالتالى غريبا عن الغرور إذ كيف يقدر أن يتكبر وهو نفسه يقول أن ما حظى به إنما كان له بمعونة ابيه وليس بجهده؟
- من يطيع اباه احيانا ويعصاه احيانا اخرى يشبه رجلا يقطر في عينيه دواء احيانا، واحيانا احد الحوامض، وقد قيل: "واحد بنى وآخر هدم فماذا انتفعنا سوى التعب؟".
- حين اعترافك بخطاياك انسحق بخلقك ومظهرك وفكرك كأنك مجرم تحاكم، أطرق برأسك إلى الأرض وبل بدموعك إن أمكنك قدمي قاضيك وطبيبك كأنه المسيح.
- لا نعجبن لاستمرار القتال علينا بعد اعترافنا بخطايانا فإن مصارعة الأفكار أفضل من مصارعة الغرور.
- يتأتى التواضع من الطاعة، واللاهوى من التواضع، لأن الرب في مذلتنا ذكرنا وخلصنا من اعدائنا" فليس إذا ما يمنع القول بأن اللاهوى يتأتى من الطاعة أما التواضع فيعود ويكتمل باللاهوى، لأنه وإن كان قد ولد اللاهوى، كما اعطى موسى الشريعة، غير أن الابنة تكمل الأم بدورها كما كملت مريم مجمع اليهود.
- إن اتيت إلى طبيب ومستشفى لا تعرف شيئا عنهما فكن بمثابة مجتاز بذاك المكان، واختبر سرا جميع الذين هناك، فإن شعرت بفائدة في مداواة أمراضك لدى الاطباء والمساعدين، ولا سيما في ما تتوخاه من علاج لانتفاخ النفس فأقدم حينذاك وبع ذاتك لهم بذهب التواضع وصك الطاعة، بأحرف الخدمة وشهادة الملائكة، ومزق في هذه الصفقة صك مشيئتك الذاتية تمزيقا، لأنك إن تمسكت بها فلسوف تتسبب في إبطال فداء المسيح لك، وليصر لك ذاك المكان قبرا قبل القبر، فإنه لا يخرج أحد من القبر قبل القيامة، وإن كان قد خرج البعض من ديرهم فانظر: أنهم قد ماتوا فتوسل إلى الرب ألا يصيبنا مثل هذا.
- إذا وجد الكسالى أن الاوامر في الدير ثقيلة عمدوا إلى تفضيل الصلاة على الطاعة، وإذا وجدوها خفيفة هربوا من الصلاة هربهم من النار.
- يوجد من إذا كان يباشر عملا وطلب إليه أحد الاخوة أن يقوم به عوضا عنه يسمح به من أجل إراحة الأخ، ويوجد من يسمح به بدافع الكسل، أو لا يسمح به بدافع المجد الباطل، كما يوجد من لا يسمح به لغيرته ونشاطه.
- إن كنت قد التزمت فارتبطت بالمكان ثم لاحظت إن عين نفسك لا تزداد فيه استنارة فلا تطلب أن تحل التزامك، فالصالح صالح في كل مكان والعكس بالعكس، إن التعبير يؤول في العالم إلى الافتراق، أما في جموع الرهبان فإن الشراهة تولد السقوط ومن ثم الارتحال، فإن تسلطت على سيدك فأينما أقمت تبلغ إلى التحرر من الأهواء، أما إذا تسلط هو عليك فما دمت خارج القبر فسوف تكون في خطر حيثما حللت.
- الرب الذي يعطي الحكمة للعميان ينبه ألحاظ المطيعين إلى فضائل مرشدهم ويغمضها عن نقائصه، أما ماقت الخير فيفعل عكس ذلك.
عظة لأبونا داود لمعي
لتفسير السلمة الرابعة "الطاعة المغبوطة"
لسماع العظة اضغط على الرابط 👇
إرسال تعليق