سيرة القديسالأنبا موسى الأسود
نشأته وحياته الأولى:
لا يعرف على وجه التحديد في أية منطقة نشأ القديس موسى ولا إلى أية قبيلة كان ينتمي، قيل أنه من إحدى قبائل البربر والقليل المعروف عن طفولته وشبابه ليس فيه ما يعجب به.
حياة التوبة:
بالرغم من شرور موسى وحياته السوداء أمام الجميع إلا أن الله الرحوم وجد في قلب موسى استعداداً للحياة معه .. فكان موسى من وقت سماعه عن آباء برية شيهيت القديسين وشدة طهارة سيرتهم وجاذبيتهم العجيبة للآخرين .. يتطلع إلى الشمس التي لا يعرف غيرها الهاً ويقول لها: "أيتها الشمس أن كنت الاله فعرفيني. وأنت ايها الإله الذي لا أعرفه عرفني ذاتك" فسمع موسى من يخبره أن رهبان وادي هبيب (برية شيهيت) يعرفون الله. فقام لوقته وتقلد سيفه وأتى إلى البرية.
توبته:
هناك في البرية تقابل مع انبا ايسيذورس وطلب منه أن يرشده إلى خلاص نفسه فأخذه أنبا ايسيذورس وعلمه ووعظه كثيراً بكلام الله وكلمه عن الدينونة والخلاص، وكان لكلمة الله الحية عملها في داخل قلبه واستكملت فاعليتها داخل نفسه فكانت دموعه مثل الماء الساقي، وكان الندم الحار يجتاح نفسه ويقلق نومه وهكذا كره حياته الشريرة وعزم على التخلص منها فقام إلى القديس ايسيذورس ثانية.
اعترافه بخطایاه ونواله سر العماد:
كان يركع أمام قس الاسقيط ويعترف بصوت عال بعيوبه وجرائم حياته الماضية في تواضع كثير وبشكل يدعو إلى الشفقة ووسط دموع غزيرة. فأخذه القديس
ايسيذورس إلى حيث يقيم أنبا مقاريوس الكبير الذي أخذ يعلمه ويرشده برفق ولين ثم منحه صبغة المعمودية المقدسة. واعترف علناً في الكنيسة بجميع خطاياه وقبائحه الماضية وكان القديس أبو مقار أثناء الاعتراف يرى لوحاً عليه كتابة سوداء، وكلما اعترف موسى بخطية قديمة مسحها ملاك الله حتى اذ انتهى من الاعتراف وجد اللوح ابيضاً.
حياته الرهبانية:
بعد أن سمع موسى لكلام ايسيذورس سكن مع الأخوة الرهبان وقيل انهم كانوا يفزعون منه في بادئ الأمر لأنه كان في حياته الماضية "رعب المنطقة" ولكنهم لم
يلبثوا أن رأوا فيه مثال الاتضاع والجهاد الروحي والنظام، ولكثرة الزائرين له أشار عليه القديس مقاريوس بأن يبتعد من ذلك المكان إلى قلاية منفردة في القفر وللحال أطاع القديس موسى وانفرد في قلايته وعاش في وحدته مثابراً على الجهاد الروحي
وتزايد فيه جداً وكان مندفعاً في الصوم والصلاة والتأمل والندم، لكن الشيطان لم يحتمل فعل القديس هذا فابتدأ يقاومه بكل قوته.
جهاده ونصرته في الحياة الرهبانية
1 -تدریب الصوم والصلاة:
بينما كان القديس موسى مداوماً على الصوم والصلاة والتأمل اذ بشيطان الخطية يعيد إلى ذاكرته العادات المرذولة القديمة ويزينها له بعد أن استنارت روحه
وعاد إلى معرفة الله، ولما اشتدت عليه وطأة الأفكار الشريرة مضى إلى القديس ايسيذورس وأخبره بحرب الجسد الثائرة ضده فعزاه قائلاً "لا تحزن هكذا وانت مازلت في بدء الصعوبات ولمدة طويلة سوف تأتي رياح التجارب وتقلق روحك فلا تخف ولا تجزع - وأنت إذا ثابرت على الصوم والسهر واحتقار أباطيل هذا الدهر سوف تنتصر على شهوات الجسد". واستفاد موسى من كلام القديس ايسيذورس ورجع إلى قلايته منفرداً وممارساً أنواعاً كثيرة من إماتة الجسد، ولم يتناول سوى القليل من الخبز مرة واحدة فقط في اليوم كله مثابراً على الصلوات وعمل اليدين.
2 -خدمة الآخرین والهرب من الفراغ:
كانت المياه يصعب احضارها إلى القلالي اذ كان يلزم أن يسيروا مسافة كثيرة واستغل موسى الأسود هذه الفرصة وأخذ يدرب نفسه على أعمال المحبة، فكان يخرج ليلاً ويطوف بقلالي الشيوخ ويأخذ جرارهم ويملأها بالماء، فلما رأى الشيطان هذا العمل لم يحتمله فتركه إلى أن أتى في بعض الأيام إلى البئر ليملأ قليلاً من الماء وضربه ضرباً موجعاً حطم عظامه حتى وقع على الأرض مثل الميت وجاء بعض الأخوة فحملوه ومضوا به إلى البيعة. وهنا أقام القديس بالبيعة نحو ثلاثة أيام ثم رجعت روحه اليه.
3 -الانسحاق أمام الله وعدم الإتكال على برنا وقوتنا:
+ تزايد الأب موسى جداً في نسكه وفي مقاتلته لذاته لدرجة كبيرة ولكن بالرغم من هذه الإماتات والسهر وقهر الذات - لم يمكنه أن يلاشي من مخيلته تلك الأشباح الدنسة بل كانت تزداد كلما ازداد هو في محاربتها، وربما كانت زيادة تقشفاته هذه بدون اذن من مرشده الروحي، لأنه لما ذهب إليه يشكو حاله قال له: "ينبغي عليك الاعتدال في كل شيء حتى في أعمال الحياة النسكية"، كما قال له أيضاً: "يا ولدي كف عن محاربة الشياطين لأن الإنسان له حد في قوته. ولكن إذا لم يرحمك الله ويعطيك الغلبة عليهم هو وحده فما تقدر عليهم أبداً. أمض الآن وسلم أمرك لله وانسحق أمامه وداوم على الإتضاع وانسحاق النفس فاذا نظر الله إلى صبرك واتضاعك فانه يرحمك". فأجاب موسى: "اني اثق في الله الذي وضعت فيه كل رجائي أن أكون دائماً متسلحاً ضد الشيطان ولا أبطل إثارة الحرب ضدهم حتى يرحلوا عني"، فلما رأى القديس ايسيذورس منه هذا الايمان. حينئذ قال له: "وانا اؤمن ايضاً بسيدي يسوع المسيح .. وباسم يسوع المسيح من هذا الوقت فصاعداً سوف تبطل الشياطين قتالها عنك" وقال له: امض على البيعة المقدسة وتناول من الأسرار الالهية. واستمر القديس موسى يصنع كقول الشيخ مواظباً على ذلك فأعطاه الله نعمة عظيمة وتواضعاً وسكونا فانحلت عنه قوة الأفكار ومن ذلك الوقت عاش موسى في سلام وازداد حكمة.
جهاده في الفضائل
1 -تواضعه واحتماله الاهانات:+ انعقد مجلس وأرادوا أن يمتحنوا انبا موسى فنهروه قائلين: لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنا؟ فلما سمع ذلك الكلام سكت. وعند انفضاض المجلس قالوا له: يا أبانا؟ لماذا لم تضطرب؟ فاجابهم قائلاً: "الحق اني اضطربت ولكني لم أتكلم شيئاً".
وسأل بعض الأخوة أحد الشيوخ عن المعنى الذي قصده أنبا موسى بقوله؟ "الحق أن اضطربت ولكني لم أقل شيئاً" فأجاب الشيخ:
"ان كمال الرهبان يكون في ناحيتين، الأولى سكون حواس الجسد، والثانية سكون حواس النفس، وان سكون حواس الجسد يكون عندما يحتمل الإنسان الاهانة لأجل السيد المسيح فلا يتكلم ولو انه قد يضطرب. اما سكون النفس فهو أن يهان الإنسان دون أن تضطرب نفسه أو يتسرب إلى قلبه الغضب".
+ قيل عنه: انه لما رسم قساً البسوه ثوب الخدمة الأبيض فقال له أحد الأساقفة: ها أنت قد صرت كلك أبيض يا أنبا موسى. فقال: "ليت ذلك يكون من داخل كما من خارج".
+ أراد رئيس الأساقفة أن يمتحنه فقال للكهنة: "اذا جاء انبا موسى إلى المذبح اطرده لنسمع ماذا يقول" فلما دخل انتهروه وطردوه قائلين له: "اخرج يا أسود. إلى خارج الكنيسة". فخرج أنبا موسى وهو يقول: "حسناً فعلوا بك يا رمادي اللون يا أسود الجلد. وحيث انك لست بانسان فلماذا تحضر مع الناس؟"
2 -هروبه من المجد الباطل:
سمع حاكم المنطقة يوماً بفضائل القديس موسى وأراد أن يراه فاتخذ طريقه إلى شيهيت فعلم الأب القديس (وكان متقدماً في السن) بهذه الزيارة، ولكي يهرب من المجد الباطل اختبأ وسط البوص في المستنقع، وفي طريقه تقابل مع الحاكم وحاشيته الكريمة، فقال له الحاكم: "ايها الرجل العجوز هل يمكن أن تعلمني اين توجد قلاية الأب موسى"
فرد عليه: "وماذا تريد أذن أن تسأله فهو رجل متقدم في الأيام وغير مستقيم"؟ .. فسبب هذا الحديث قلقاً للحاكم واستمر في طريقه وقرع باب الدير حيث كان الأخوة ينتظرونه، فقال لهم: "يا آبائي لقد سمعت كلاماً كثيراً عن الأب موسى، وجئت للصحراء لكي أراه، وعلى مسافة من هذا المكان تقابلت عند المستنقع مع عجوز وسألته اين قلاية الأب موسى فرد عليَّ أن في الذهاب إليه مشقة كبيرة، وهو رجل عجوز غير مستقيم.." وكان لهذه الكلمات وقع كبير في نفوس الجميع، فأخذوا يصرخون ويحتجون بشدة من ترى يكون هذا العجوز الضعيف العقل هكذا حتى يتكلم
بهذه الطريقة عن الأب القديس المكرم في كل شيهيت، فقال الزائر العظيم انه عجوز ضئيل الجسم يلبس ملابس طويلة وبالية جداً ووجهه أسمر من الشمس، وله ذقن بيضاء طويلة ونصف رأسه خال من الشعر، وعند ذلك فهموا السر، فقد كان الحاكم قد تقابل مع الأب موسى نفسه وتصنع ذلك ووصف نفسه بالكلمات المذكورة، فرجع الحاكم متأثراً جداً.
3 -زهده:
حدث أن قوماً أتوا إليه من مصر وكان موضوعاً على المائدة ثعبان مشوي، ولما حان وقت الغذاء وأراد الأخوة أن يأكلوا منعهم القديس قائلاً: "لا تقربوا هذا يا أخوتي فانه وحش شرير" فقالوا له: "لماذا فعلت هكذا يا أبانا؟" فقال لهم: "يا اخوتي أن هذه النفس المسكينة اشتهت سمكاً ففعلت هذا كي ما أكسر شهوتها الرديئة"، فتعجب الأخوة كثيراً ومجدوا الله الذي اعطى قديسه هذه النعمة العظيمة.
4 -فاعلية صلاته:
قيل عن أنبا موسى: أنه لما عزم على الإقامة في الصخرة تعب ساهراً. فقال في نفسه كيف يمكنني أن أجد مياهاً لحاجتي ها هنا. فجاءه صوت يقول له: ادخل ولا تهتم بشيء. فدخل وفي أحد الأيام زاره قوم من الآباء ولم يكن له وقتئذ سوى جرة ماء فقط.
فأعد عدساً يسيراً، فلما نفذ الماء حزن الشيخ وصار يخرج ويدخل ثم يخرج ويدخل هكذا .. وهو يصلي إلى الله. واذ بسحابة ممطرة قد جاءت فوقه حيث كانت الصخرة.
وسرعان ما تساقط المطر فامتلأت اوعيته من الماء. فقال له الآباء: لماذا كنت تدخل وتخرج؟ فأجابهم وقال: كنت أصلي إلى الله قائلاً: انك انت الذي جئت بي إلى هذا المكان وليس عندي ماء ليشرب عبيدك. وهكذا كنت أدخل واخرج مصلياً الله حتى أرسل لنا الماء.
5 -اخفاء تدبيره وحفظه وصية المسيح:
حدث مرة أن أعلن في الاسقيط أن يصام اسبوع وتصادف وقتئذ أن زار الأنبا موسى أخوة مصريون. فأصلح لهم طبيخاً يسيراً. فلما أبصر القاطنون بجواره الدخان اشتكوا لخدام المذبح قائلين: هوذا موسى قد حل الوصية اذ أعد طبيخاً. فطمأنهم اولئك قائلين: بمشيئة الرب يوم السبت سوف نكلمه. فلما كان السبت وعلموا السبب قالوا لأنبا موسى أمام الجميع: "أيها الأب موسى، حقاً لقد ضحيت بوصية الناس في سبيل اتمام وصية االله"
6 -جلوسه في القلایة وصبره على أحزانها:
+ قيل أن الأب الكبير الأنبا موسى الأسود قوتل بالزنا قتالاً شديداً في بعض الأوقات. فقام ومضى إلى انبا ايسيذورس وشكا له حاله فقال له: ارجع إلى قلايتك. فقال أنبا موسى: اني لا استطيع يا معلم. فصعد به إلى سطح الكنيسة وقال له: انظر إلى الغرب فنظر ورأى شياطين كثيرين، يتحفزون للحرب والقتال ثم قال له: أنظر إلى الشرق فنظر ورأى ملائكة كثيرين يمجدون الله. فقال له: اولئك الذين رأيتهم في الغرب هم محاربونا. أما الذين رأيتهم في الشرق فانهم معاونونا. ألا نتشجع ونتقو اذن ما دام ملائكة الله يحاربون عنا؟ فلما رآهم أنبا موسى فرح وسبح الله ورجع إلى قلايته بدون فزع.
+ قيل أضاف أنبا موسى أخاً فطلب منه كلمة فقال له: امض وأجلس في قلايتك والقلاية سوف تعلمك كل شيء.
7 -فضائله:
عطفه على الخطاة وعدم ادانته لهم:
قيل: أخطأ أخ في الاسقيط يوماً فانعقد بسببه مجلس لادانته وأرسلوا في طلب أنبا موسى ليحضر. فأبى وامتنع عن الحضور. فأتاه قس المنطقة وقال: "ان الآباء كلهم ينتظرونك" فقام وأخذ كيساً مثقوباً وملأه رملاً وحمله وراء ظهره وجاء إلى المجلس.
فلما رآه الآباء هكذا قالوا له: ما هذا أيها الأب؟ فقال: "هذه خطاياه وراء ظهري تجري دون أن ابصرها، وقد جئت اليوم لإدانة غيري عن خطاياه". فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ ولم يحزنوه في شيء.
+ اعتادوا القول أن وجه "انبا بموا" كان مثل الضياء تماماً، كما أخذ موسى مجداً شبه آدم ولمع وجهه وكان مثل ملك مستو على عرشه، آذلك آان الحال مع أنبا سلوانس وأنبا صيصوي.
استشهاده
+ بينما كان الأخوة جالسين بالقرب من القديس موسى في احدى المناسبات قال لهم:
"سوف يقبل البربر اليوم إلى البرية "الاسقيط"، قفوا، اهربوا"، قالوا له: ألا تريد أنت الهرب يا أبانا؟ أجابهم: طوال هذه السنين وأنا انتظر هذا اليوم لكي يتم قول
فادينا الذي قال: "الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون مت ٢٦ : ٥٢ "
قالوا: "نحن ايضاً لا نهرب ولكن نموت معك" فأجاب وقال لهم: "هذا ليس شأني انما رغبتكم، ليهتم كل انسان بنفسه في الموضع الذي يسكن فيه" وكانوا سبعة أخوة. وبعد برهة من الزمن قال لهم: "هوذا البربر يقتربون إلى الباب، فدخل البربر وقتلوهم ولكن واحداً منهم كان خائفاً هرب بين الحصير ورأى سبعة تيجان نازلة من السماء توجت السبعة الذين ذبحوا".
بركة سيرة القديس تكون معنا ولربنا المجد دائما أبديا آمين.
إرسال تعليق